وفاة عمه وزوجه وهجرته إلى الطائف. توفي أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة، وعلى إثره توفيت زوجه خديجة رضي الله عنها. ولما توفي عمه آذته قريش بأكثر مما كانت تفعل من قبل، فخرج إلى الطائف ملتمسًا المنعة من أهلها وراجيًا أن يقبلوا الإسلام، فأغلظوا له في الرد وأغروا به السفهاء فرموه بالحجارة حتى أدموه عليه الصلاة والسلام. ولم يؤمن به إلا مولى لهم يدعى عدَّاسًا. وفرج الله همه في طريق عودته إلى مكة، حين بعث الله إليه مَلَك الجبال ليأمره بما يشاء في معاقبة أهل الطائف كأن يطبق عليهم الأخشبين (وهما جبلان)، فما كان منه ³ إلا أن قال: (... بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا ) متفق عليه. ثم دخل مكة في حماية المطعم بن عدي، وقد أطلق الرسول على عام وفاة عمه أبي طالب وأم المؤمنين خديجة اسم عام الحزن.
الإسراء والمعراج. جاءت هذه المعجزة تكريمًا وتثبيتًا لمحمد ³ بعد وفاة عمه الذي كان يحميه، وزوجته التي كانت تواسيه، وبعد ما أصابه في الطائف ومكة وما أصابه من أذى المشركين. وتمثل الإعجاز هنا في ذهاب الرسول ³ إلى بيت المقدس بروحه وجسده (الإسراء)، ثم صعوده إلى السماء. ووقع هذا كله في جزء من ليلة.
بيعتا العقبة وانتشار الدعوة. كانت مواسم الحج وأسواق العرب مناسبات مهمة يلتقي الرسول ³ فيها بالناس، ولاسيما بذوي الشأن منهم، ويطلب إليهم أن يحموه ليبلغ رسالة ربه، وكان ممن استجاب له، في العام الحادي عشر من مبعثه، ستة من الخزرج (من قبائل المدينة). وفي العام التالي، بايعه عند العقبة اثنا عشر رجلاً من رجال المدينة، عرفوا بالأنصار، وعرفت بيعتهم باسم بيعة العقبة الأولى. وبايعه في العام الثالث عشر، عند العقبة أيضًا ـ بيعة حماية ونصرة ـ ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من الأنصار، عرفت بيعتهم ببيعة العقبة الثانية، وتمثل هذه البيعات الأساس الذي هاجر عليه النبي ³ مع أصحابه إلى المدينة، حيث قامت الدولة الإسلامية، بعد قضاء ثلاث عشرة سنة بمكة.
الهجرة إلى المدينة. أمر النبي أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فتسللوا إليها سرًا، أفرادًا وجماعات، وتخلف بعضهم لأعذار. واتخذ النبي ³ الاحتياطات اللازمة للإفلات من الكفار الذين قرروا قتله. من ذلك أنه اتجه مع أبي بكر جنوبًا، حيث مكثا في غار ثور ثلاثة أيام حتى خَفَّ تتبعه وطلب اللحاق به. وكانت أسماء بنت أبي بكر تحمل إليهما الطعام، وكان عبدالله بن أبي بكر يتسمع ما يقال بمكة، ثم يذهب إليهما ليخبرهما. ومع أن عامر بن فهيرة (مولى أبي بكر) كان يأتي بالغنم ليخفي آثار الأقدام، ويسقيهما من ألبانها، اقتفى الكفار أثرهما إلى باب الغار، ولكن الله أعماهم عنهما بنسيج العنكبوت على باب الغار وجعلت قريش ديتهما جائزة لمن يعثر عليهما، لكن الله حمى نبيه من كل سوء كما حماه في الطريق إلى المدينة من سراقة بن مالك ـ أحد طلاب جائزة قريش ـ حين غاصت أرجل فرسه في الأرض وطلب الأمان. ومرَّ ركب رسول الله في طريقه إلى المدينة بخيمة أم معبد الخزاعية، حيث مس الرسول ³ ضرع شاة لها عجفاء فحلبت لهم فارتوى الجميع وزاد. .
النبي في المدينة. فرح الأنصار بمقدم النبي ³ إليهم، وأنشد مستقبلوه مرحبين:
طلع البدر عـــــلينا من ثنيـات الوداع
وجب الشكر علينا مادعـــــا لله داع
ونزل النبي ³ في دار أبي أيوب الأنصاري حتى تم بناء منزله. ثم بدأ الرسول ³ ببناء المسجد، وشارك في البناء. وآخى الرسول بين المهاجرين والأنصار ليشد بعضهم أزر بعض، ثم كتب صحيفة، بين المسلمين من جهة واليهود والمشركين من جهة أخرى، لتنظيم العلاقات فيما بينهم.
غزواته وسراياه وبعوثه. قاد ³ خلال الإحدى عشرة سنة التي عاشها بالمدينة نحوًا من ثمانٍ وعشرين غزوة، وأرسل نحوًا من أربع وخمسين سرية وخمسة بعوث. ومن أشهر الغزوات: بدر الكبرى، أُحد، بنو قينقاع، بنو النضير، ذات الرقاع، الخندق (الأحزاب)، بنو قريظة، بنو المصطلق (المريسيع)، الحديبية، خيبر، فتح مكة، حنين، تبوك. ومن أشهر السرايا: الخبط (سيف البحر)، نخلة، مؤتة. ومن أشهر البعوث: الرجيع، بئر معونة.
وقد نجحت هذه الغزوات والسرايا في أهدافها، خصوصًا في إضعاف العدو، وحصول المسلمين على موارد مادية لتقوية جيوشهم، كما أدت هذه الغزوات والسرايا إلى هزيمة المشركين في النهاية.
رسائله إلى الزعماء. أرسل النبي عدة رسائل إلى رؤساء البلاد داخل الجزيرة العربية وخارجها يدعوهم فيها إلى الإسلام، وذلك بعد صلح الحديبية الذي أبرم في العام السادس الهجري. وممن أرسل إليهم: النجاشي الحبشي، وكسرى الفارسي، وهِرَقل (قيصر) الروم، والمقوقس القبطي المصري، والحارث بن أبي شمر الغساني، وهوذة بن علي الحنفي اليمامي، والمنذر بن ساوي العبدي البحريني، ثم ابنا الجلندي العمانيان.
الوفود. عندما توطدت أركان الإسلام، في العام التاسع الهجري على وجه الخصوص، قدمت وفود العرب إلى المدينة لتعلن إسلامها، ومن أشهر هذه الوفود: بنو تميم، وعبد القيس، وبنو حنيفة ونجران، وطيء، والأشعريون، وبنو عامر، وجذام، وبنو سعد، وكندة، وزبيد، وثقيف، وبنو أسد، وهمدان، وبنو سليم، وتجيب، وغامد، ومذحج.
زوجاته: أمهات المؤمنين. تزوج ³ ثلاث عشرة زوجة، دخل باثنتي عشرة وطلق واحدة قبل الدخول، ولم يتزوج على خديجة إلا بعد مماتها، ولم ينكح بكرًا إلا عائشة. اجتمع عنده منهن إحدى عشرة، ومات عليه الصلاة والسلام عن تسع. وكان وراء كل زواج حكمة. تزوج خديجة لشهرتها بين الجاهليين بصفتها الطاهرة العفيفة؛ وهي التي خطبته لنفسها لأمانته ونظافة يده، وتزوج سودة بنت زمعة لأنها كانت من المهاجرات إلى الحبشة ومات عنها زوجها السكران بن عمرو؛ وتزوج عائشة بنت أبي بكر (وهي الزوجة البكر الوحيدة بين زوجاته) لمكانة أبيها في الإسلام؛ وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب لمكانة أبيها في الإسلام وترمُّلها بعد استشهاد زوجها خنيس بن حذافة البدري (صاحب الهجرتين: الحبشة والمدينة)؛ وتزوج زينب بنت خزيمة الهلالية بعد استشهاد زوجها الثاني، وكانت تدعى أم المساكين في الجاهلية والإسلام؛ وتزوج أم سلمة (هند بنت أبي أمية، أم المؤمنين) بعد استشهاد زوجها؛ ولأنها كانت من المجاهدات وصاحبات الهجرتين؛ وتزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، زعيم بني المصطلق، لمكانة أبيها في قومه وتألفًا له ولقومه ـ وكان ذلك سببًا في إسلام قومها؛ وتزوج زينب بنت جحش، مطلقة متبناه ومولاه زيد بن حارثة بأمر من الله عزّ وجل له، لإبطال عادة التبني؛ وتزوج أم حبيبة: رملة بنت أبي سفيان عندما تنصر زوجها وهي معه بالحبشة تقديرًا لثباتها على الإسلام، وحماية لها من الفتنة، ولمكانة أبيها في قومه؛ وتزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية لتقواها، وكانت عزبة؛ كما تزوج عليه الصلاة والسلام مارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم القبط في مصر ردًا على رسالته التي بعث بها إليه يدعوه فيها إلى الإسلام، وقد أنجب منها إبراهيم؛ وأخيرًا تزوج الرسول ³ صفية بنت حيي بن أخطب. :
معجزاته. خصه الله تعالى بمعجزات كثيرة، من أعظمها القرآن الكريم الذي تحدى به الله العرب. ومنها أنّ المشركين سألوا رسول الله أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر، ومنها حنين الجذع إليه حين ترك الاستناد إليه وأخذ يخطب على المنبر. ومنها أن الماء نبع من بين أصابعه غير مرة، ومنها أن الحصى سبّحت في كفه، ومنها أن كَلَّمَتْه ذراع الشاة المسمومة، ومنها أنه ردّ عين قتادة بن النعمان عندما انخلعت يوم أحد، وتفل في عيني علي يوم خيبر فبرئ من الرمد. ومنها أن كسرت رجل عبدالله بن عتيك فمسحها فبرئت رجله من حينها. وأخبر الرسول أنه يقتل أبيّ بن خلف يوم أحد، فخدشه خدشًا يسيرًا فمات بسببه. وكَثَّرَ طعام جابر فشبع منه جيش الخندق وهم ألف. وأطعم كل أهل الخندق من تمر يسير. وغير ذلك كثير.
شمائله. من أبرزها: التقشف في الطعام والفراش والمسكن والمركب.كان لا يصيب طعامًا، ويأكل مما يجده. كان يقبل الهدية، ولا يأكل من الصدقة. كان أشجع الناس وأحلمهم وأسخاهم وأشدهم حياء وتواضعًا، حتى إنه كان يخصف نعله، ويحيك ثيابه، ويلبس الصوف، ويخدم أهله، ويعود المرضى، ويرحم الضعفاء، ويتألَّفُ أهل الشرف، ولا يغضب إلا لله، ويرحم الضعفاء حتى الأعداء منهم.
وفاته. توفي ³ عن ثلاث وستين سنة، في ضحى يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، بعد مرض دام ثلاثة عشر يوما،ً ودفن ليلة الأربعاء، في الموضع الذي توفي فيه داخل حجرة عائشة بالمدينة المنورة وصلى عليه المسلمون أرسالا (جماعة بعد جماعة) ولم يؤم الناس على رسول الله ³ أحد.
ذريته. أنجبت له زوجه خديجة: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة والقاسم وعبدالله ـ وكان يسمى الطاهر والطيب ـ وأنجبت له زوجته مارية القبطية إبراهيم. ولم ينجب من غير خديجة ومارية، ومات الذكور من أولاده صغارًا. وبقيت ذريته ³ في فاطمة الزهراء وأولادها رضي الله عنهم أجمعين.