وكان صلى الله عليه وسلم القدوة المثلى في اللين للمؤمنين والشدة على الكافرين قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وكان صلى الله عليه وسلم لا يستكبر أن ينفرد ببعض أصحابه كبيرًا كان أو صغيرًا، رجلاً كان أو غلامًا فيخصه بالحديث أو يتسامر معه بالخير والعلم، صحب عبد الله بن عباس يومًا ما وهو غلام فأوصاه بوصايا عظيمة يقول ابن عباس فيها: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)).
وكذلك قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟))...
وأريدكم أيها الإخوة المسلمون أن تتخيلوا هذا الموقف. وكأني بذلك الحمار يسير برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمعاذ بن جبل وهو راكب خلف النبي صلى الله عليه وسلم والحمار يسير فيهتز ويميل ويعلو بهما تارة وينزل بهما تارة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل يتحادثان بأعظم حديث فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ الذي يركب خلفه: ((يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله)) فيجيب معاذ: الله ورسوله أعلم. فيقول صلى الله عليه وسلم : ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا)). كل ذلك وهما على ظهر الحمار وهو يسير بهما، فيقول معاذ: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ فيقول صلى الله عليه وسلم وهو يقود الدابة: ((لا تبشرهم فيتكلوا))..
هذا الحديث الذي سوَّد عليه العلماء الكتب وصنفوا له التصانيف يعجب الإنسان حين يتذكر أن مخرجه كان ذلك المخرج السهل في ذلك الموقف المتواضع في تلك المحادثة الجميلة البعيدة عن التكلف التي جرت بينه صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل وهما على الحمار يسير بهما.
ـ وهذا أبو ذر رضي الله عنه يقول: خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده وليس معه إنسان، فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد فجعلت أمشي في ظل القمر، وهذا من أدبه رضي الله عنه، قال: فالتفت فرآني فقال: ((من هذا؟)) قلت: أبو ذر جعلني الله فداءك. قال: ((يا أبا ذر تعال)) وهذا من تبسطه صلى الله عليه وسلم ومراعاته لنفوس أصحابه واقترابه منهم. قال أبو ذر: فمشيت معه ساعة فقال لي: ((إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرًا فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرًا)) وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم غاب عنه ثم رجع إليه وقال: ((ذلك جبريل عليه السلام عرض لي في جانب الحرة قال: بشر أمتك أن من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة)).
وهكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم، وتلك سيرته وكذلك كانت دعوته إلى ربه، يصحب هذا الرجل فيحدثه وهما يسيران في ظل القمر، ويردف خلفه هذا الغلام، فيوصيه بوصايا جامعة، أو يردف آخر فيقرر له أصل التوحيد وحقيقته ويأخذ بمنكب ذلك فيوصيه وصية[4].. فالدعوة إلى الله عز وجل أعم وأكبر من أن تكون كلمات منسقة من تحت قبة عالية أو من وراء مكتب فخم، أو من خلال مؤتمر حافل، الدعوة إلى الله أعم وأكبر من أن تكون مجرد جهاز إرسال وجهاز استقبال، وإنما المهم في الدعوة، الاقتراب إلى النفوس، والصحبة الطيبة والسيرة العطرة، وتبليغ الدعوة في ثنايا ذلك كله في يسر ودون تكلف..
أما هديه صلى الله عليه وسلم في تقويم الأشخاص وعلاج النفوس فكان فيه ذلك السير كذلك، أتاه شاب فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فقال: ((أترضاه لأمك؟ أترضاه...؟ فما لك ترضى للناس ما لا ترضاه لنفسك؟)) فقال الرجل: لا أعود.
وأتي بحاطب بن أبي بلتعة وقد أخبر المشركين بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلم يعنفه حتى سأله وتبين منه قائلاً له: ((ما حملك على ما صنعت؟)).
وأتاه أعرابي غليظ فقال: يا محمد أعطني من مال الله فإنه ليس مال أبيك ولا أمك. فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يغضب وقال له: ((أحسنت إليك؟)). فقال الرجل: لا. فما زال يزيده حتى أثنى عليه بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرادوا حين دخل الأعرابي أن يقتلوه فقال صلى الله عليه وسلم لهم بعد انصراف الأعرابي: ((إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلى نفورًا، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم. فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها هونًا هونًا، حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحله، واستوى عليها.. وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار)).
وجاءه صلى الله عليه وسلم أسيد بن حضير وعباد بن بشر فحدثاه في شيء فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن الرجلان أنه وجد عليهما، أي تضجر منهما، فلما خرجا أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية من لبن فأرسل في آثارهما فسقاهما تطييبًا لنفوسهما وإبعادًا للشيطان عنهما، فعرف الرجلان أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد عليهما.
وكان صلى الله عليه وسلم واسع الصدر، حليمًا متواضعًا في استقبال حديث العوام والبسطاء، أتته امرأة رفاعة القرظي تقول له: إن رفاعة طلقني البتة وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما عنده مثل الهدبة وأخذت هدبه من جلبابها. فقال سعيد بن العاص: يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم..
وكان يكره التصنع والتكلف والصعوبة في الأمور كلها حتى في الأسماء. فعن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه جاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم : ما اسمك؟ فقال: حَزْن أي صعب وعر. فقال: ((بل أنت سهل))، فقال: لا أغير اسمًا سمانيه أبي. قال سعيد بن المسيب رحمه الله: فما زالت فينا حَزونه بعد...
وكان يمر على الصبيان فيسلم عليهم وربما كلف بعضهم بشيء، يشعر فيه بقربه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعود تحمل المسئولية.
هذا أنس رضي الله عنه يقول: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الصبيان فسلم علينا، فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي. فلما جئت قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة. قالت: ما حاجته؟ فقال لها أنس وما أعقلها وما أحكمها من مقالة: إنها سر.
وروى أنس هذا الحديث بعدما كبر وحمله عنه ثابت، وقال له أنس: والله لو حدثت به أحدًا لحدثتك به يا ثابت. وهكذا بقي هذا السر عند أنس منذ أسر به إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان غلامًا صغيرًا.
كذلك كان يشارك أصحابه في بعض لعبهم كالمصارعة وصارع ركانة فصرعه صلى الله عليه وسلم وكان أبعد شيء عن التشنج والتكلف وكان يشاركهم في الأعمال فشاركهم في بناء المسجد وفي حفر الخندق، وكان صلى الله عليه وسلم يحب المساكين، ويحب مجالستهم، وكان يحب التوابين النادمين على ذنوبهم، ويفسح لهم صدره بعد التوبة، ويكره التضييق عليهم أو إحراجهم بعدما صحت توبتهم، وأتته الغامدية امرأة من غامد اعترفت بالزنا فأمر بها فرجمت، فسبها بعض أصحابه احتقارًا لها، فقال صلى الله عليه وسلم : ((لا تسبها، والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم)).
ويطول بنا الحديث في هديه صلى الله عليه وسلم في جميع أمور حياته ولكن نختم بهديه صلى الله عليه وسلم وهو على فراش الموت كان مهتمًّا بالسواك، فكان يشير للسواك في يد أصحابه فيعلمون حبه له فيناوله بعضهم السواك فيتسوك به شديدًا وكان يضع يده في ركوة فيها ماء ويمسح جبهته يخفف على نفسه وهو في سكرات الموت، ولا يمنعه ذلك من النصح للأمة.. وكان كل حرصه وهو موشك على الرحيل للآخرة على ما ينفع المسلمين في دينهم وآخرتهم، فكان يضع ثوبًا على وجهه ثم يكشفه، ويقول: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا، وكان من آخر كلامه قبل أن يفارق الدنيا: ((الصلاة، الصلاة وما ملكت أيمانكم))..
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فحق لجميع المؤمنين أن يحزنوا لفراقه ويتشوقوا للقائه، وحق لفاطمة رضي الله عنها أن تعجب من جلد المؤمنين وقوة تحملهم وتقول لهم بعدما دفنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وإذا كان جذع.. جماد حن وبكى لفراقه صلى الله عليه وسلم لما اتخذ المنبر فخطب عليه وترك الجذع الذي كان يخطب إليه، فما بالك بالمؤمن صاحب القلب الحي.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، اللهم اجمعنا به في الدار الآخرة وأوردنا حوضه واسقنا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا. اللهم أحينا على ملته وتوفنا على منهجه وسنته {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.