السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم ..
" وقفة مع النفس "
-- إن من أعظمِ الأمانات أمانةُ النفس ، فهي أعظمُ من أمانةِ الأموالِ والأولاد ، أقسمَ الله بها في كتابه ، ولا يقسمُ الله إلا بعظيم ،
قال تعالى :
( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ) الشمس7
وقد جعلَ الله لهذهِ النفس طريقين : طريقُ تقوىً وبه تفوزُ وتُفلح ، وطريقُ فجورٍ وبه تَخسر وتَخيب .
والناظرُ في حالِ الناسِ اليوم ، يرى رُخص النفوسِ عند أهلِـها ، ويرى الخسارةَ في حياتِـها لعدمِ مُحاسبتِها ،
والذين فقدوا أو تركوا محاسبةَ نفوسِهم سيتحسرون في وقتٍ لا ينفعُ فيه التحسر ، يقول جل شأنه :
( أنْ تَقولَ نَفسٌ يا حَسْرتى عَلى ما فَرطتُ في جَنْبِ اللهِ وإنْ كُنْتُ لَمِنَ الساخِرين ) الزمر 56.
وبتركِ محاسبة النفس تسلط الشيطانُ الذي دعا إلى المعصية ، وحذّر من الطاعة ، وزينَ الباطل ، وثبطّ عن العَملِ الصالح وصدّ عنه .
وبتركِ محاسبة النفس تمكنت الغفلةُ من الناسِ ، فأصبحَ لهم قلوبٌ لا يفقهونَ بها ولهم أعينٌ لا يبصرونَ بها ،
ولهم آذانٌ لا يسمعونَ بها ، أولئكَ كالأنعامِ بل هم أضل ، أولئكَ هم الغافلون .
يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )الحشر18
يقولُ ابنُ كثيرٍ – رحمه الله – في تفسيرِ قولِه تعالى :
( وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) :
(( أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعرضِـكم على ربِكم ، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم ، لا تخفى عليهِ منكم خافيه )) انتهى كلامه رحمه الله .
* ويترتبُ – كذلكَ – على ترك محاسبة النفس أمرٌ هامٌ جداً ، ألا وهو هلاكُ القلب ، هـلاكُ القلب ! يقولُ ابنُ القيّم – رحمه الله - : " وهلاكُ القلب من إهمالِ النفسِ ومن موافقتها وإتباع هواها " .
--- فسائر أمراض القلب إنما تنشأ من النفس ، وصلاح القلب لا يتم إلا 00000 بمحاسبة النفس 000
فى الحديث الذى رواه أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله )
- دان نفسه : أى حاسبها 0
- قبل أن يموت أبو بكر "رضى الله عنه " أوصى عمر بن الخطاب "رضى الله عنه " فقال له 000
( ياعمر أول ما أحذرك منه نفسك التى بين جنبيك لأنك لو إنتصرت عليها ستنتصر على أعداء الدين ) 00
- وعندما ذهب أحد الصالحين لزيارة " إبن تيمية " فى السجن رق قلبه وبكى لحاله فما كان من "ابن تيمية " إلا أن قال له
( إن المحبوس من حبس قلبه عن الله وإن المأسور من أسره هواه وشهوته ) 00
- ذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب "رضى الله عنه " أنه قال00
( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا .. وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا.. فإنه أهون عليكم فى الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم ) 00
- وكتب عمر بن الخطاب " رضى الله عنه " إلى أحد عماله
00( حاسب نفسك فى الرخاء قبل حساب الشدة 00 فإن من حاسب نفسه فى الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضى والغبطة
00 ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة ) 00
- قال الحسن البصرى
00( المؤمن قوام على نفسه ، يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم فى الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ) 000
- وقال 00 ( إن العبد لايزال بخير ما كان له واعظ من نفسه00 وكانت المحاسبة من همته ) 00
- وقال 000 ( لا تجد المؤمن إلا يحاسب نفسه ) 00
- وقال ميمون بن مهران00 ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه )
ولمحاسبة النفس فوائدٌ جمّةٌ ، منها :
ولاً : الإطلاعُ على عيوبِ النفس ، ومن لم يطلع على عيبِ نفسِه لم يمكنهُ معالجتُه وإزالته .
ثانيـاً : التوبةُ والندمُ وتدارك ما فات في زمنِ الإمكان .
ثالثـاً : معرفةُ حقُ اللهِ تعالى ، فإن أصلَ محاسبةُ النفس هو محاسبتها على تفريطها في حقِ الله تعالى .
رابعـاً : انكسارُ العبد وتذلُلَه بين يدي ربه تبارك وتعالى .
خامساً : معرفةُ كرَمِ الله سبحانه ومدى عفوهِ ورحمتهِ بعبادهِ في أنه لم يعجل لهم عقوبتَهم معَ ما هم عليه من المعاصي والمخالفات .
سادسـاً : الزهد ، ومقتُ النفس ، والتخلصُ من التكبرِ والعُجْب .
سابعـاً : تجد أنَّ من يحاسبُ نفسَهُ يجتهدُ في الطاعةِ ويترُكُ المعصية حتى تَسهُلَ عليهِ المحاسبةُ فيما بعد .
ثامنـاً : ردُ الحقوقِ إلى أهلِـها ، ومحاولةُ تصحيحِ ما فات .
وغيرها من الفوائد العظيمة الجليلة .
هناكَ أسبابٌ تعينُ المسلمَ على محاسبةِ نفسهِ وتُسهِّلُ عليهِ ذلك ، منها ما يلي :
1. معرفةُ أنك كلما اجتهدت في محاسبةِ نفسكَ اليوم ، استراحتَ من ذلك غداً ، وكلما أهملتها اليوم اشتدَّ عليكَ الحسابُ غداً .
2. معرفةُ أنَّ ربحَ محاسبة النفس هو سُكْنى الفردوس ، والنظرُ إلى وجهِ الربِ سبحانه ، وأنَّ تركها يؤدي بك إلى الهلاكِ ودخولِ النار والحجابِ عن الرب تبارك وتعالى .
3. صحبةُ الأخيار الذينَ يُحاسبونَ أنفسَهُم ، ويُطلِعونَك على عيوبِ نفسِكَ ، وتركُ صحبة من عداهم .
4. النظرُ في أخبارِ أهل المحاسبةِ والمراقبة ، من سلفِنا الصالح .
5. زيارةُ القبورِ والنظرُ في أحوالِ الموتى الذين لا يستطيعونَ محاسبةَ أنفسِهم أو تدارُكِ ما فاتَـهم .
6. حضورُ مجالس العلمِ والذكر فإنها تدعو لمحاسبة النفس .
7. البعدُ عن أماكن اللهوِ والغفلة فإنها تُنسيكَ محاسبةَ نفسك .
8. دعاءُ اللهِ بأن يجعلك من أهلِ المحاسبة وأن يوفقك لذلك .
كيفَ أحاسبُ نفسي ؟
سؤالٌ يترددُ في ذِهن كل واحدٍ بعدَ قراءةِ ما مضى .
وللإجابة على هذا التساؤل :
ذكرَ ابنُ القيم أن محاسبةَ النفس تكون كالتالي :
أولاً : البدءُ بالفرائض ، فإذا رأى فيها نقصٌ تداركهُ .
ثانياً : النظرُ في المناهي ، فإذا عرَف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبةِ والاستغفارِ والحسناتِ الماحية .
ثالثاً : محاسبةُ النفس على الغفلةِ ، ويَتَدَاركُ ذلِك بالذكرِ والإقبالِ على ربِ السماوات ورب الأرض رب العرش العظيم .
رابعاً : محاسبةُ النفس على حركاتِ الجوارح ، وكلامِ اللسان ، ومشيِ الرجلين ، وبطشِ اليدين ، ونظرِ العينين ، وسماعِ الأذنين ،
ماذا أردتُ بهذا ؟ ولمن فعلته ؟ وعلى أي وجه فعلته ؟
ن رضيت عنها وإتبعت أمرها هلكت 000
وإن غفلت عن محاسبتها غرقت 000
وإن أهملتها جمحت وشردت 000
وإن عجزت عن مخالفتها ا وإتبعت هواها قادتك إلى النار 000
وإن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل 000
خي الحبيب : اعلم أن أعدى عدوٍ لكَ نفسُكَ التي بين جنبيك ، وقد خُلِقتْ أمارةً بالسوءِ ميالةً إلى الشرورِ ، وقد أُمرتَ بتقويمها وتزيكتها
وفطامها عن موارِدِها ، وأن تقودَها بسلاسلِ القهْرِ إلى عبادةِ ربِها ، فإن أنتَ أهملتها ضلّتْ وشَرِدتْ ، وإن لزمتَها بالتوبيخِ رَجونا أن تصيرَ
مُطمئنة ، فلا تغفلنّ عن تذكيرِها .
أخي الحبيب : كم صلاةٍ أضعتَها ؟ كم جُمُعَةٍ تهاونتَ بها ؟ كم صدقةٍ بَخِلتَ بها ؟ كم معروفٍ تكاسلتَ عنه ؟ كم منكرٍ سكتَّ عليه ؟
كم نظرةٍ محرمةٍ أصبتَها ؟ كم كلمةٍ فاحشةٍ أطلقتها ؟ كم أغضبتَ والديك ولم ترضِهِما ؟ كم قسوتَ على ضعيفٍ ولم ترحمه ؟
كم من الناسِ ظلمتَه ؟ كم وكم ...؟
إنا لنفــــرحُ بالأيـــــــامِ نقطعُـها *** وكـلَّ يـــومٍ يُدني مـــن الأجــــلِ
فاعمل لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهداً *** فإنما الربحُ والخسرانُ في العملِ
أقوى سلاح فى مجاهدة النفس هو الصبر 00
فأصبر على جهاد نفسك وهواك وشيطانك 00
- فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لايغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها فى حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها 00
- اللهم هب لنا قلباً خاشعاً وعلماً نافعاً وكياناً على البلاء صابراً 00 اللهم أنصرنا على أنفسنا وصلنا بك ولا تقطعنا عنك أبداً 00
- اللهم قنا من أهواء نفوسنا0 وإجعل هوانا تبعاً لما تحبه وترضاه إنك على كل شئ قدير 000
هذا والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم ، وصلى الله وسلمَ وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبه أجمعين .